فصل: حكم إقامة اليهود والنصارى والمشركين في الجزيرة العربية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المختار في حكم الاستعانة بالكفار **


 سيرة المؤلف لأحد تلامذته

هو الشيخ العلامة أبو عبدالله حمود بن عبدالله بن عقلاء بن محمد ابن علي بن عقلاء الشعيبي الخالدي من آل جناح من بني خالد ، ولد سنة 1346هـ ونشأ في بلدة الشقة من أعمال بريدة ، وعندما بلغ السابعة من عمره كف بصره بسبب مرض الجدري ، وعلى الرغم من ذلك واصل دراسته في الكتَّاب ، وكان لوالده جهدٌ كبير في تنشأته وتعليمه ، وقد حفظ القرآن وعمره خمسة عشر عاماً في الكتَّاب أيضاً على يد الشيخ عبدالله بن مبارك العمري ، ثم رحل إلى الرياض لطلب العلم وذلك في سنة 1367هـ بإشارة من والده ، فبدأ بتلقي العلوم على فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ ، أخذ عنه مبادىء العلوم ، ثم انتقل إلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ سنة 1368هـ ، فلازمه وأكثر من الأخذ عنه في شتى فنون العلم ، وقد تتلمذ على عدة مشائخ غير هؤلاء منهم فضيلة الشيخ إبراهيم بن سليمان وفضيلة الشيخ سعود بن رشود وفضيلة الشيخ عبدالله بن محمد ابن حميد وفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن رشيد وغيرهم‏.‏

وبعد أن فتحت كلية الشريعة بالرياض أخذ فيها عن سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله ، وعلى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فلازمه حتى في بيته فأخذ عنه المنطق وأصول الفقه والتفسير ، وفي سنة 1376هـ تخرج من كلية الشريعة وعين في نفس السنة مدرساً في المعهد العلمي بالرياض ، وفي عام 1378هـ عين مدرساً في كلية الشريعة ، وتولى فيها على مدى أربعين سنة تدريس الحديث والفقه وأصول الفقه ، والتوحيد والنحو والتفسير ، ثم ترقى خلالها حتى وصل إلى درجة أستاذ ولشيخنا بحوث ومؤلفات عدة ، منها ‏:‏ الإمامة العظمى ، والبراهين المتظاهرة في حتمية الإيمان بالله والدار الآخرة ، وشرح جزء من بلوغ المرام ، وشارك في تأليف كتاب تسهيل الوصول إلى علم الأصول المقرر في الجامعة الإسلامية ، وهذا البحث المبارك ‏"‏ القول المختار في حكم الاستعانة بالكفار ‏"‏ وله فتاوى ومذكرات كثيرة متفرقة متداولة ، تتضمن الوقوف ضد التيارات المنحرفة والمبتدعة ، منها في التصوير والتحذير من الحفلات الغنائية ، والأعياد المبتدعة وقيادة المرأة السيارة وغيرها ، ومنها تزكيات للعلماء والمصلحين ، فجزاه الله خيراً من مجاهد صادق ، وقد تخرج على يده ثلة غفيرة من العلماء والأساتذة والوزراء ، منهم معالي الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية ، ومعالي الدكتور عبدالله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وزير العدل ، وفضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء ، وفضيلة الشيخ المجاهد سلمان بن فهد العودة، وفضيلة الشيخ المجاهد علي ابن خضير الخضير، وفضيلة الشيخ قاضي تمييز عبدالرحمن بن صالح الجبر ، وفضيلة الشيخ قاضي تمييز عبدالرحمن بن سليمان الجارالله ، وفضيلة الشيخ قاضي تمييز عبدالرحمن بن عبدالعزيز الكِليِّة ، وفضيلة الشيخ قاضي تمييز عبدالرحمن بن غيث ، وفضيلة الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله العجلان رئيس محاكم منطقة القصيم ، وفضيلة الشيخ سليمان ابن مهنا رئيس محاكم الرياض ، وفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن السعيد الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورئيس هيئة التحقيق والادعاء العام فضيلة الشيخ محمد بن مهوس ، وفضيلة الشيخ الدكتور عبدالله الغنيمان ، وفضيلة الشيخ حمد بن فريان وكيل وزارة العدل ، وفضيلة الشيخ إبراهيم بن داود وكيل وزارة الداخلية ، وممن أشرف على رسائلهم العلمية سواء في الدكتوراه أو الماجستير ‏:‏ الدكتور محمد عبدالله السكاكر، والدكتور عبدالله بن صالح المشيقح ، والدكتور عبدالله بن سليمان الجاسر ، والدكتور صالح بن عبدالرحمن المحيميد ، والدكتور محمد بن لاحم ، والدكتور عبدالعزيز بن صالح الجوعي ، والدكتور ناصر السعوي ، والدكتور خليفة الخليفة ، والدكتور إبراهيم ابن محمد الدوسري وغيرهم كثير ، فجزاه الله خير الجزاء ونفع الله بعلمه وختم له بخير ‏.‏

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين ‏.‏

15/2/1420هـ

 المقدمة

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين‏.‏ أما بعد‏:‏

فإن الله سبحانه وتعالى لما أراد بأهل الأرض خيراً أرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق وأمره أن يبلغ هذا الدين لأمته ، فقام صلوات الله وسلامه عليه بهذا الأمر أتم قيام فما ترك خيراً وصلاحاً إلا دل الأمة عليه وأمرهم به وبين لهم أسباب الوصول إليه ، وما ترك شراً إلا وحذر الأمة منه ونهاهم عنه وبين لهم الطرق الموصلة إليه ليجتنبوه ، فما توفي عليه الصلاة والسلام إلا وقد بين لأمته كل ما تحتاج إليه ويصلحها في دنياها وأخراها ‏.‏ قال تعالى ‏:‏ ‏{‏ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ‏}‏ ‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام ‏:‏ ‏"‏ تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ‏"‏ ‏.‏ وقال أبو ذر رضي الله عنه ‏:‏ ‏"‏ ما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وذكر لنا منه علماً ‏"‏ ‏.‏

وإن مما حذر منه عليه الصلاة والسلام ونهى عنه في آخر حياته وفي مرض موته صلى الله عليه وسلم إقامة اليهود والنصارى والمشركين في جزيرة العرب واستعانة المسلمين بالكفار في القتال وفي غيره ، والمستقرىء لكتاب الله العزيز يجد فيه النصوص الكثيرة في تحريم الركون إلى الكفار وموالاتهم والاستعانة بهم ، وكذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم نصوص كثيرة متظافرة تنهى نهياً مؤكداً عن إقامة اليهود والنصارى والمشركين في جزيرة العرب ، وعن الاستعانة بالكفار والركون إليهم وموالاتهم كذلك ، وهذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين والمسانيد والسنن وغيرها كما ستقف عليه إن شاء الله في أثناء هذا البحث ، ولما رأيت بعض الحكومات - التي تدعي الإسلام - في الجزيرة العربية قد تجاهلت مدلول هذه النصوص فسهلت الطريق لدخول اليهود والنصارى إلى الجزيرة ومكنتهم من الإقامة فيها وتكديس ترسانات أسلحتهم المتنوعة فيها لإرهاب المسلمين وتهديد استقرار الشعوب العربية المسلمة ومهاجمتهم بالأسلحة الفتاكة واستمرار الهجمات والضربات العسكرية عليهم من وقت لآخر ‏.‏‏.‏‏.‏ رأيت لزاماً عليَّ أن أبين هذه الحقيقة وفق ما يفهم من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فكتبت هذا البحث المختصر وضمنته بعضاً من النصوص الواردة في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة في هذا الشأن كما ذكرت فيه جملة من أقوال علماء الأمة الذين أدوا الأمانة ووفوا بالعهود التي أخذها الله عليهم فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً ‏.‏

ولقد عزمت على كتابة هذا البحث إبراءاً للذمة وأداءاً للأمانة واتقاءاً للوعيد الذي تضمنه قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ‏}‏ ‏.‏

والله أسأل أن ينفع به ويجعله خالصاً لوجهه الكريم ‏.‏

حمود بن عبدالله بن عقلاء الشعيبي

الأستاذ سابقاً في كلية الشريعة وأصول الدين

في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

فــــــرع القصــــــــيم 15 شوال 1419هـ

 تمهيد

قبل الشروع في البحث لابد لي من تمهيد بين يديه تعرف من خلاله السبب الذي من أجله أوصى عليه الصلاة والسلام بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب ونهى عن الاستعانة بالكفار ‏.‏

فأقول ‏:‏ أعلم وفقنا الله وإياك أنه منذ أشرق نور الإسلام في ربوع مكة المكرمة جُنَّ جنون أعداء الرسل من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين فشمَّروا عن سواعدهم لمحاربة الإسلام ومعارضته وقاموا بحملات كلامية استهدفوا فيها شخص النبي صلى الله عليه وسلم حيث نعتوه بشتَّى نعوت الذم والعيب والتنقص ليشوهوا ما جاء به وينفروا عنه الناس فتارة قالوا ساحر ومرة قالوا شاعر وأخرى معلَّم مجنون وقالوا ‏:‏ مفترٍ ولكن الله سبحانه وتعالى ردَّ عليهم في كتابه العزيز ونفى كل هذه النعوت الكاذبة الحاقدة عن نبيه عليه الصلاة والسلام فقال ‏{‏وما صاحبكم بمجنون‏}‏ وقال ‏:‏ ‏{‏ فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ‏}‏ ‏.‏ وقال ‏:‏

{‏ وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ‏}‏ ‏.‏ وقال ‏:‏ ‏{‏إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ماتؤمنون‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي نزه الله بها نبيه عن تلك النعوت الكاذبة ‏.‏

ولما لم تنجح هذه الأساليب في صد الناس عن اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام لجأوا إلى إيذاء أصحابه وأتباعه وتسلطوا عليهم بالتعذيب والإهانة والقتل أحياناً رجاء أن يرجعوا عن اعتناقهم الإسلام واتباع

النبي صلى الله عليه وسلم ولما لم تكن هذه الأساليب ناجحة في صرف المسلمين عن اتباع نبيهم صلى الله عليه وسلم لجأ قتلة الأنبياء إلى محاولة القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم فتارة وضعوا له السُّم في الطعام ومرة سحروه وأخرى حاولوا إلقاء حجر عليه من شاهق غير أن هذه المحاولات الحاقدة باءت بالفشل حيث حمى الله نبيه وأطلعه على هذه المحاولات الشريرة التي استهدفت القضاء على النبي وعلى

دين الإسلام الذي جاء به ولما استفحل أمرهم وعظم شرهم وتكرر نقضهم للعهود والمواثيق قاومهم النبي صلى الله عليه وسلم وجرت بينه وبينهم معارك عسكرية هي غزوة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وغزوة خيبر ، وفي كل هذه المعارك انتصر الإسلام ، وانهزم أعداء الله ، وعندما فتح الله على نبيه خيبر صالح عليه الصلاة والسلام اليهود على البقاء فيها والعمل في أرضها بشطر ما يخرج منها ولكنه صُلْح جعل الخيار فيه للمسلمين بأن قال عليه الصلاة والسلام ‏:‏ ‏"‏ نقركم فيها ما شئنا ‏"‏ ‏.‏ فمقتضى هذا الصلح أن للمسلمين الخيار ، فمتى شاءوا أخرجوا اليهود وأنهوا الصلح معهم وهذه الصورة للصلح هي إحدى صورتين صالح فيهما النبي صلى الله عليه وسلم أعداءه ، والأخرى صلْحه مع المشركين يوم الحديبية وهو صُلْح محدد بزمن معين ينتهي بانتهاء ذلك الزمن ، أما غير هاتين الصورتين فلم يحصل صُلْح بين النبي وبين الكفار حسب علمي اللهم إلا أن يقال إنه عند قدومه صلى الله عليه وسلم للمدينة وادع اليهود وهذا صحيح ولكن وادعهم على ألا يعتدوا عليه ولا يعينوا عليه أحداً مقابل بقائهم في قراهم ومزارعهم ، أما صُلْح يتضمن تنازل المسلمين عن شيء من أراضيهم لليهود أو أحد من الكفار وتبقى ملك للعدو إلى الأبد ويكونون أصدقاء لهم ويعترفون بهم ويلغون مقاتلتهم وجهادهم فهذا لم يقع منه صلى الله عليه وسلم حسب ما علمت ‏.‏

جرت هذه المعارك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود كما جرت بينه وبين النصارى معارك أخرى هي مؤتة وهي غزوة موجهة إلى نصارى العرب وغزوة تبوك الموجهة إلى الروم النصارى وما ذاك إلا لعلمه صلى الله عليه وسلم بخطرهم على الإسلام والمسلمين ثم جدد الأخطبوط - اليهود والنصارى - صراعهم بعد عهد النبوة فحاولوا القضاء على الخلافة الإسلامية بالجهود التي قام بها طاغوتهم وأشقاهم عبدالله بن سبأ اليهودي فقد تآمروا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقتلوه ، وتآمروا على أمير المؤمنين عثمان بن عفان فخلعوه من الخلافة وقتلوه ، ثم قتلوا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ، ثم فيما بعد ما قام به النصارى الصليبيون في الداخل من التعاون مع أعداء الدين ضد المسلمين ثم ما قاموا به من حملات صليبية عسكرية استولوا بها على أجزاء من بلاد المسلمين حتى جاءت فتنة الاستعمار العسكري المباشر في القرن الماضي ، ثم الغزو الفكري ، ثم التغريب والتبعية ، ثم العلمنة ، واليوم يقومون بنفس الدور في محاربة الإسلام والمسلمين لكن بأسماء مختلفة وشعارات مخدرة بما يسمى بالنظام العالمي الجديد ، ومظلة الأمم المتحدة ، والشرعية الدولية ، ومن تلك الأساليب ما يطلقونه على المجاهدين من ألقاب كالأصولية والإرهاب والتطرف والتشدد ، فعادوا إلى المنطقة الإسلامية بأسماء مستعارة كالصداقة ومسمى التعاون أو الاستعانة أو إعادة الشرعية ، والواقع أن اليهود والنصارى من أخطر أعداء الإسلام ، ولذا جاء ذمهم كثيراً في القرآن الكريم والسنة المطهرة والتحذير من شرورهم ‏.‏

وفي الجملة فإن كل فساد وضلال وقع في العقيدة الإسلامية فاليهود والنصارى وراؤُه ، فإذا تأملت ضلالة الخوارج وبدعتهم وجدت أن وراءَها اليهود ، لأن محدثها اليهودي الذي سمى نفسه عبدالله بن سبأ ، وإذا تأملت بدعة الرفض وجدت أن محدثها هو ابن سبأ ، وإذا تأملت ضلالة القدرية وجدت أن محدثها يهودي من يهود البصرة يقال له سوسن اليهودي ، وإذا تأملت كفر الباطنية وجدت أن محدثه ميمون بن ديصان اليهودي ، وإذا تأملت بدعة الجهمية وجدت أن سند الجهم بن صفوان يتصل بلبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى المذاهب الكفرية المعاصرة، مثل الشيوعية والبهائية والقاديانية وجدتَ أن محدثيها اليهود والنصارى ، فإن إمام الشيوعية كارل ماركس يهودي ، والقاديانية والبهائية من صنع البريطانيين ، أحدثوها في الهند وفارس ودعوا إليها وعملوا على نشرها في العالم الإسلامي ‏.‏

وبهذا التمهيد المختصر تعرف الأسباب التي من أجلها أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب ، ونهانا أن نستعين بهم أو نركن إليهم ، ولأن الاستعانة بهم تستلزم موالاتهم والركون إليهم واتخاذهم أولياء وأصدقاء ‏.‏

قبل الكلام على حكم إجلاء اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب لابد من بيان الجزيرة العربية وموقعها وحدودها وأهميتها والدول الواقعة فيها ‏.‏

تعريف الجزيرة

لغة ‏:‏ جاء في المصباح المنير ‏:‏ ‏"‏ جزر الماء جزراً من بابي ضرب وقتل انحسر وهو رجوعه إلى خلف ومنه الجزيرة سميت بذلك لانحسار الماء عنها ‏"‏ ‏.‏

اصطلاحاً ‏:‏ والجزيرة في اصطلاح الجغرافيين والمؤرخين وعلماء البلدان ‏:‏ ‏"‏ بقعة من اليابسة يحيط بها الماء من جميع جهاتها ولذا سميت جزيرة لأن الماء جزر عنها وبقيت يابسة

وجزيرة العرب بهذا التعريف تكون شبه جزيرة لأن الماء يحيط بها من أغلب جهاتها لا من جميع جهاتها ونسبت إلى العرب لأنها مقرهم منذ كانوا ‏.‏

موقعها فأما موقعها فهي تقع في الطرف الجنوبي الغربي من قارة آسيا ‏.‏

حدودها وأما حدودها فقد أتفق المؤرخون والجغرافيون تقريباً على حدودها الثلاثة الغربي والجنوبي والشرقي واختلفوا في الحد الشمالي اختلافاً يقرب من أن يكون لفظياً ‏.‏

والذي يتلخص من كلام المؤرخين والجغرافيين في تحديد الجزيرة أنها تحد من الغرب ببحر القلزم المعروف بالبحر الأحمر ، ومن الجنوب بالبحر العربي ، ومن الشرق بالخليج العربي ‏(‏ خليج البصرة ‏)‏ ، ومن الشمال ببادية الشام ‏.‏

قال شيخ الإسلام تقي الدين ‏:‏ ‏"‏ جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم إلى بحر البصرة ، ومن أقصى حجر اليمامة إلى أوائل الشام بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم ولاتدخل فيها الشام، وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث وقبله ‏"‏ اهـ ‏.‏

قال أبو عبيد والأصمعي ‏:‏ ‏"‏ هي من ريف العراق إلى عدن طولاً ، ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضاً ‏"‏ اهـ ‏.‏

وقال أبو عبيدة ‏:‏ ‏"‏ هي من حفر أبي موسى إلى اليمن طولاً ومن رمل يبرين إلى منقطع السماوه عرضاً ‏"‏ اهـ ‏.‏

قال الخليل ‏:‏ ‏"‏ إنما قيل لها جزيرة العرب لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها ‏"‏ اهـ ‏.‏

وقال سماحة الشيخ العلامة بكر أبو زيد ‏:‏ ‏"‏ حدود الجزيرة العربية غرباً بحر القلزم والقلزم مدينه على طرفه الشمالي وهو المعروف باسم البحر الأحمر ، ويحدها جنوباً بحر العرب ويقال بحر اليمن، وشرقاً خليج البصرة ‏(‏الخليج العربي‏)‏ والتحديد من هذه الجهات الثلاث بالأبحر المذكورة محل اتفاق بين المحدثين والفقهاء والمؤرخين والجغرافيين وغيرهم الحد الشمالي يحدها شمالاً ساحل البحر الأحمر الشرقي وما على ماسامته شرقاً من مشارف الشام وأطرافه ‏(‏ الأردن حالياً ‏)‏ ومنقطع السماوة من ريف العراق والحد غير داخل في المحدود هنا ‏"‏ اهـ ‏.‏

وبالجملة فالجزيرة العربية هي قاعدة الإسلام والمسلمين ومنطلقه العريق وهي أولى البلاد بأن تكون خالصة للإسلام والمسلمين طاهرة من رجس اليهود والنصارى ‏.‏ بأي مسمى جاؤوا إليها سواء مسمى الإعانة أو الدفاع أو الإقامة ، ولذا جاء التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم بتطهير الجزيرة العربية منهم ‏.‏

قال ممليه عفا الله عنه ‏:‏ والعجب مما ذهب إليه بعض العلماء من أن المراد بجزيرة العرب التي ورد ذكرها في الأحاديث هي الحجاز فقط حيث خصصوا الحكم بإجلاء اليهود والنصارى والمشركين من الحجاز مع أن الحجاز لا ينطبق عليه تعريف الجزيرة لأن الجزيرة جزء من اليابسة يحيط به الماء من جميع جهاته أو من أغلبها والحجاز لايحيط به الماء من جميع جهاته ولا من أغلبه وإنما يحده من جهة واحدة وهي الجهة الغربية فكيف يطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم جزيرة العرب في الأحاديث الكثيرة ، وقد بحثت عن دليل يخص الحجاز بهذه التسمية فلم أجد سوى أمرين استدل بهما القائلون بأن الحجاز هي جزيرة العرب ، وهما دليلان لا يوصلان إلى المدعى ، أما الأول فقالوا إنه ورد عنه صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث قوله ‏:‏ ‏"‏ أخرجوا اليهود من الحجاز ‏"‏ ، وأما الثاني ‏:‏ فإنهم قالوا إن الحكَّام وبعض العلماء تركوا اليهود في اليمن وتيماء فلو كانت هذه الأماكن من الجزيرة لما تركوا اليهود فيها ‏.‏

الجواب عن هذين الدليلين ‏:‏

أما الأول ‏:‏ فإنه قوله صلى الله عليه وسلم أخرجوا اليهود من الحجاز وهو لايتنافى مع قوله صلى الله عليه وسلم أخرجوهم من جزيرة العرب لأن الحجاز جزء من جزيرة العرب ومعلوم أنه قد تقرر في علم الأصول أن ذكر بعض أفراد العام أو أجزاء الكل لا يخلو من أحد أمرين ‏:‏ إما أن يكون ذكر بعض أفراد العام أو أجزاء الكل مخالفاً لحكم العام أو الكل أو موافقاً له ، فإن كان موافقاً له فهو مؤكد له غير معارض له كما في ذكر إجلاء اليهود من الحجاز فإنه موافق لقوله ‏:‏ ‏"‏ أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب ‏"‏ غير معارض له لأن الحجاز من جزيرة العرب وإن كان ذكر بعض أفراد العام أو أجزاء الكل مخالفاً لحكم العام أو الكل فهو مخصص له غير ناسخ له ‏.‏

ثانياً ‏:‏ أما استدلالهم بترك بعض الحكَّام والعلماء لليهود في تيماء واليمن فالجواب عنه أن يقال‏:‏ أولاً ‏:‏ قد يكون لتركهم لليهود في اليمن وغيره مبرر يقتضي ذلك بأن يكون تركهم في هذه الأماكن وعدم إجلائهم فيه مصلحة للإسلام والمسلمين تربوا على مفسدة بقائهم ‏.‏ ثانياً‏:‏ وقد يكونون غير قادرين على إجلائهم ‏.‏

وقد تعرض الإمام الصنعاني في كتاب الجهاد من كتاب سبل السلام لهذا فقال رحمه الله ‏:‏ ‏"‏ قلت ‏:‏ لا يخفى أن الأحاديث الماضية فيها الأمر بإخراج من ذكر من أهل الأديان غير دين الإسلام من جزيرة العرب والحجاز بعض جزيرة العرب وورد في حديث أبي عبيدة الأمر بإخراجهم من الحجاز وهو بعض مسمى جزيرة العرب والحكم على بعض مسمياتها بحكم لا يعارض الحكم عليها كلها بذلك الحكم كما

قرر في الأصول أن الحكم على بعض أفراد العام لا يخصص العام ‏.‏

وهذا نظيره ، وليست جزيرة العرب من ألفاظ العموم كما وهم فيه جماعة من العلماء وغاية ما أفاده حديث أبي عبيدة زيادة التأكيد من إخراجهم من الحجاز لأنه أدخل إخراجهم من الحجاز تحت الأمر بإخراجهم من جزيرة العرب، ثم أفرد بالأمر زيادة تأكيد لا أنه تخصيص أو نسخ كيف وقد كان آخر كلامه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏ أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ‏"‏ ‏.‏

وأخرج البيهقي من حديث مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبدالعزيز يقول ‏:‏ ‏"‏ بلغني أنه كان آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان بأرض العرب ‏"‏ ‏.‏

وأما قول الشافعي ‏:‏ إنه لا يعلم أحداً أجلاهم من اليمن فليس ترك إجلائهم بدليل فإن أعذار من ترك ذلك كثيرة ، وقد ترك أبو بكر رضي الله عنه إجلاء أهل الحجاز مع الاتفاق على وجوب إجلائهم لشغله بجهاد أهل الردة ولم يكن ذلك دليلاً على أنهم لا يجلون بل أجلاهم عمر رضي الله عنه، وأما القول بأنه صلى الله عليه وسلم أقرهم في اليمن بقوله لمعاذ ‏:‏ ‏"‏ خذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً ‏"‏ فهذا كان قبل أمره صلى الله عليه وسلم بإخراجهم فإنه كان عند وفاته كما عرفت ، فالحق وجوب إجلائهم من اليمن لوضوح دليله، وكذا القول بأن تقريرهم في اليمن قد صار إجماعاً سكوتياً لا ينهض على دفع الأحاديث فإن السكوت من العلماء على أمر وقع من الآحاد أو من خليفة أو غيره من فعل محظور أو ترك واجب لا يدل على جواز ما وقع ولا على جواز ما ترك فإنه إن كان الواقع فعلاً أو تركاً لمنكر وسكتوا لم يدل سكوتهم على أنه ليس بمنكر لما علم من أن مراتب الإنكار ثلاث باليد أو اللسان أو القلب ، وانتفاء الإنكار باليد واللسان لا يدل على انتفائه بالقلب وحينئذ فلا يدل سكوته على تقريره لما وقع حتى يقال قد أجمع عليه إجماعاً سكوتياً إذ لا يثبت أنه قد أجمع الساكت إذا علم رضاه بالواقع ولا يعلم ذلك إلا علام الغيوب ‏.‏ وبهذا يعرف بطلان القول بأن الإجماع السكوتي حجة ولا أعلم أحداً قد حرر هذا في رد الإجماع السكوتي مع وضوحه والحمد لله المنعم المتفضل ، فقد أوضحناه في رسالة مستقلة ، فالعجب ممن قال ‏:‏ ومثله قد يفيد القطع وكذلك قول من قال إنه يحتمل أن حديث الأمر بالإخراج كان عند سكوتهم بغير جزية باطل لأن الأمر بإخراجهم عند وفاته صلى الله عليه وسلم والجزية فرضت في التاسعة من الهجرة عند نزول براءة فكيف يتم هذا ، ثم إن عمر أجلى أهل نجران وقد كان صالحهم صلى الله عليه وسلم على مال واسع كما هو معروف وهو جزية والتكلف لتقويم ما عليه الناس وردِّ ما ورد من النصوص بمثل هذه التأويلات مما يطيل تعجب الناظر المنصف اهـ ‏.‏

فأما الدول الواقعة فيها فمنها جمهورية اليمن والمملكة والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر وعمان ‏.‏

وبعد الفراغ من بيان الجزيرة العربية وموقعها وحدودها وأهميتها والدول الواقعة فيها نتكلم على حكم إقامة اليهود والنصارى والمشركين فيها ‏.‏

 حكم إقامة اليهود والنصارى والمشركين في الجزيرة العربية

لقد اتفق من يعتد بقوله من فقهاء الأمة وعلمائها على أنها لا تجوز إقامة اليهود والنصارى والمشركين في جزيرة العرب لا إقامة دائمة ولا مؤقتة ما عدا أن بعض العلماء يرى جواز إقامتهم ثلاثة ايام للضرورة ، ولا يجوز لمسلم أن يأذن لهم في دخولها للإقامة ‏.‏ معتمدين على الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم والآثار الثابتة عن الصحابة رضوان الله عليهم ‏.‏ فمن تلك النصوص ‏:‏

أولاً ‏:‏ ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث ‏:‏ ‏"‏ أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، ونسيت الثالثة ‏"‏ ‏.‏

وفي صحيح مسلم من طريق أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول أخبرني عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏

‏"‏ لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً ‏"‏ ‏.‏

وفي الصحيحين ‏:‏ ‏"‏ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز ‏"‏ ‏.‏

ومنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق محمد بن إسحاق قال حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله ابن عبدالله بن عتبة عن عائشة قالت ‏:‏ ‏"‏ كان آخر ما عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ لا يترك بجزيرة العرب دينان ‏"‏ ‏.‏

وقال الإمام مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر ابن عبدالعزيز يقول كان آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال ‏:‏ ‏"‏ قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان

بأرض العرب ‏"‏ وحدثني مالك عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏"‏ لا يجتمع دينان في جزيرة العرب فأجلى يهود خيبر ‏"‏ ‏.‏

وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال ‏:‏

‏"‏ بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ ‏"‏ انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم ‏:‏

يا معشر يهود أسلموا تسلموا ، فقالوا ‏:‏ قد بلغت يا أبا القاسم فقال ‏:‏ ذلك أريد ثم قالها الثانية فقالوا ‏:‏ قد بلغت يا أبا القاسم، ثم قال في الثالثة فقال ‏:‏ اعلموا أن الأرض لله ورسوله وإني أريد أن أجليكم فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله ‏"‏ ‏.‏

هذه النصوص وغيرها مما لم أورده تدل دلالة قاطعة على أنه لايجوز لليهود والنصارى وغيرهم من الكفار أن يبقوا في جزيرة العرب وهي كما ترى في مكان من حيث الصحة والصراحة ووضوح المعنى والإحكام بحيث لايمكن الطعن فيها بالتضعيف أو التأويل أو دعوى النسخ وذلك أنها مخرجة في الصحيحين وبعضها في المسند وبعضها في السنن وقد اتفق العلماء على أن ما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم رحمهم الله أنه يفيد العلم اليقيني لأن الأمة تلقته بالقبول والتصديق فلا مجال للطعن فيما اتفق عليه البخاري ومسلم ، وأما عدم جواز تأويلها فذلك لأجل صراحة ألفاظها ووضوحها وكونها نصاً في الموضوع لا يحتمل لفظها معنى غير المعنى الظاهر منها وما كان كذلك فلا يصح تأويله عند علماء الأصول وغيرهم من العلماء إنما الذي يجوز تأويله من النصوص هو الذي يكون لفظه محتملاً لمعنيين فيرجح أحدهما لأجل قرينة تحف به ، أما كونها محكمة وغير قابلة للنسخ فلأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر وأوصى بإخراجهم من جزيرة العرب في آخر حياته كما روى الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت ‏:‏ ‏"‏ كان آخر ما عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏

لا يترك بجزيرة العرب دينان ‏"‏ ‏.‏ وكما قال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ ‏:‏ ‏"‏ أنه سمع عمر يقول ‏:‏ ‏"‏ كان آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

لا يبقين دينان بأرض العرب ‏"‏ ‏.‏ فإذا كان الأمر كذلك فدعوى النسخ غير واردة لمعرفة تأخر تأريخ تكلمه صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأيضاً فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أجلى اليهود من خيبر والنصارى من نجران بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو كان أمره صلى الله عليه وسلم بإخراجهم من الجزيرة منسوخاً لم يجلهم عمر ، ولا يقال يمكن أن يخفى على عمر رضي الله عنه النسخ ، كما يدل على هذا ما أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لما فدع أهل خيبر عبدالله بن عمر قام عمر خطيباً فقال ‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أموالهم وقال ‏:‏ نقركم ما أقركم الله وإن عبدالله ابن عمر خرج إلى ماله هناك فَعُدِىَ عليه من الليل فَفُدِعَتْ يداه ورجلاه وليس لنا هناك عدو غيرهم هم عدونا وتهمتنا وقد رأيت إجلاءهم فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق فقال ‏:‏ يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم وعامَلنا على الأموال وشرط ذلك لنا ‏؟‏ فقال عمر ‏:‏ أظننت أني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلةً بعد ليلةٍ ‏؟‏ فقال ‏:‏ كانت هذه هُزَيْله من أبي القاسم ‏.‏ فقال ‏:‏ كذبت يا عدو الله فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعُرُوضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك‏"‏ ‏.‏

 ذكر طرف من أقوال العلماء في إجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب

قال الإمام ابن القيم رحمه الله ‏:‏ ‏"‏ قال الإمام مالك أرى أن يجلو من أرض العرب كلها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ويقول ‏:‏ لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً ‏"‏ ‏.‏

وقال تقي الدين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ‏:‏ ‏"‏ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته أن تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب فأخرجهم عمر رضي الله عنه من المدينة وخيبر وينبع واليمامة ومخاليف هذه البلد ولم يخرجهم من الشام بل لما فتح الشام أقر اليهود والنصارى بالأردن وفلسطين وغيرهما كما أقرهم بدمشق وغيرها ‏"‏ ‏.‏

وقال أيضاً رحمه الله فيما نقله عنه الإمام ابن القيم ‏:‏ ‏"‏ وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب جزية راتبة على من حاربه من اليهود لا بني قينقاع ولا النضير ولا قريظة ولا خيبر ، بل نفى بني قينقاع إلى أذرعات وأجلى النضير إلى خيبر وقتل قريظة وقاتل أهل خيبر فأقرهم فلاّحين ما شاء الله وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب‏"‏‏.‏

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ رحمه الله في كتاب الجهاد من الفتاوى ما نصه ‏:‏ ‏"‏ الوثنية المحضة لا تقر بحال لا في مشارق الأرض ولا في مغاربها والمرتدون أغلظ وأغلظ واليهود والنصارى يقرون بالجزية لكن لا في جزيرة العرب ‏"‏ لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ‏"‏ ‏.‏ وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في خيبر بالجزية لإصلاح ما يصلحون منسوخ بما أوصى به عند موته ‏"‏ اهـ ‏.‏

 حكم الاستعانة باليهود والنصارى وسائر الكفار

تمهيد ‏:‏ لما أوجد الله الخليقة على هذه الأرض كانوا مفتقرين ومحتاجين لبعضهم في تحقيق أمورهم لأن كل فرد من البشر مهما كانت قدرته وغناه ، ومهما بلغ من العلم لا يستطيع أن يقوم بكل شؤونه بل لابد أن يحتاج إلى غيره في تحقيق ما يريد حتى ولو كان ملكاً أو عالماً أو غنياً ، فلو كان الملك مثلاً على جانب من الشجاعة والعلم بشؤون الحرب والقتال ماهراً في علوم السياسة والقيادة وأراد الغزو لقتال العدو فلابد أن يحتاج إلى من يعينه على هذه المهمة من مستشارين وضباط وجنود وغيرهم وأولئك الأعوان محتاجون إلى الملك في ما يأخذونه من أجور على أعمالهم ‏.‏

ومثال آخر يبين مدى حاجة كل فرد من البشر إلى غيره ، فلو أراد إنسان أن يقيم لنفسه قصراً فإنه لا يقوى على تحقيق ذلك مهما كانت منزلته من الغنى والعلم بشؤون البناء والهندسة بل لابد من احتياجه إلى من يعينه من بنائين وصناع وغيرهم ‏.‏

والخلاصة أن كل فرد من أفراد البشر محتاج لخدمة غيره ، وغيره محتاج لخدمته وإن لم يشعر بذلك ‏:‏

الناس للناس من بــدو وحاضـــرة ** بعض لبعض وإن لم يشعروا خـــدمُ

ولما كان التعاون بين الناس بهذه المنزلة من الأهمية أمر به الإسلام ورغب فيه وحث عليه قال تعالى ‏:‏ ‏{‏ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏}‏ ، وامتن سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين بأن جعلهم أمة واحدة متحدين متعاونين متناصرين بعد أن كانوا مختلفين ومتفرقين قال سبحانه وتعالى ‏:‏ ‏{‏ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏.‏ وقال سبحانه وتعالى ممتناً على نبيه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم ‏}‏ ، وقال عليه الصلاة والسلام ‏:‏ ‏"‏ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ‏"‏ ، وقال عليه الصلاة والسلام ‏:‏ ‏"‏ والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ‏"‏ ، ولماكانت الاستعانة تقتضي الحب والموالاة والركون إلى المستعان به رأيت أن أقدم نبذة مختصرة عن الولاء والبراء ‏.‏

 الـــولاء

تعريفه في اللغة ‏:‏ الولي فعيل بمعنى فاعل ومنه وَلِيَه إذا قام به ، ومنه قوله تعالى ‏:‏

{‏ الله ولي الذين آمنوا ‏}‏ ويكون الولي بمعنى مفعول في حق المطيع ، فيقال‏:‏ المؤمن ولي الله ووالاه موالاة وولاء‏:‏ من باب‏"‏قاتل‏"‏ أي تابعه ‏.‏

وقال في لسان العرب ماخلاصته‏"‏ الموالاة كما قال ابن الأعرابي أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح ، ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه ووالى فلان فلاناً إذا أحبه ‏"‏ اهـ ‏.‏

وهذه الكلمة المكونة من الواو واللام والياء يصاغ منها عدة أفعال مختلفة الصيغ والمعاني يأتي منها وَلِيَ وولّى وتولى ووالى واستولى ولكل من هذه الأفعال معنى يختلف عن الآخر عند الاستعمال ‏.‏

أولاً ‏:‏ وَلِىَ ‏:‏ يطلق ويراد به القرب ، تقول وَلِىَ فلان فلاناً ، وفلان يلي فلاناً أي قريب منه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ‏:‏ ‏"‏ والولي القريب ، فيقال هذا يلي هذا أي يقرب منه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏ ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ‏"‏ ‏.‏ أي لأقرب رجل إلى الميت ‏"‏ اهـ ‏.‏ ويأتي ولي بمعنى الاستيلاء والملك فيقال ولي الأمر بعد سلفه إذا صار الأمر إليه ‏.‏

ثانياً ‏:‏ ولىَّ ‏:‏ يأتي لازماً فيكون بمعنى ذهب كقوله صلى الله عليه وسلم في قصة ابن أم مكتوم حينما جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته رخص له صلى الله عليه وسلم ، قال الراوي ‏:‏ ‏"‏ فلما ولىَّ - أي ذهب - ناداه ، قال ‏:‏ أتسمع النداء ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ، قال ‏:‏ فأجب ‏"‏ ‏.‏ وفي لفظ قال ‏:‏ ‏"‏ لا أجد لك رخصة ‏"‏ ‏.‏ ويأتي متعدياً فيقال ولَّى فلان فلاناً الأمر إذا أسنده إليه ‏.‏

ثالثاً ‏:‏ تولىَّ ‏:‏ يأتي معدىً بحرف الجر ‏"‏ عن ‏"‏ فيكون بمعنى أعرض كقوله سبحانه وتعالى ‏:‏ ‏{‏ فتول عنهم فما أنت بملوم ‏}‏ ‏.‏ أي أعرض عنهم ويأتي متعدياً بنفسه فيكون بمعنى اتَّبَعَ ، يقال ‏:‏ تولاه أي اتبعه واتخذه ولياً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ‏}‏ ، ويأتي لازماً كقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ‏}‏ ‏.‏

رابعاً ‏:‏ والى ‏:‏ يقال والى فلان فلاناً إذا أحبه واتبعه ، والمولى ‏:‏ اسم يطلق على جماعة كثيرة فهو الرب والمالك والسيد والمنعم والمعتق والناصر والمحب والجار وابن العم والتابع والصهر والحليف والعقيد والمنعم عليه والعبد والمعتق ، هذه المعاني تقوم على النصرة والمحبة ‏.‏

خامساً ‏:‏ استولى ، يقال استولى الجيش على بلد العدو إذا أخذوها عنوة ‏.‏

 منزلة الولاء والبراء في الإسلام

الولاء والبراء قاعدة من قواعد الدين وأصل من أصول الإيمان والعقيدة ، فلا يصح إيمان شخص بدونهما ، فيجب على المرء المسلم أن يوالي في الله ويحب في الله ويعادي في الله فيوالي أولياء الله ويحبهم

ويعادي أعداء الله ويتبرأ منهم ويبغضهم ، قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏ أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله ‏"‏ ‏.‏

قال ممليه عفا الله عنه ‏:‏ الناس بالنسبة للموالاة والمعاداة ثلاثة أقسام ‏:‏

القسم الأول ‏:‏ من آمن بالله ورسوله ، وصدق بدينه وشرعه ، وامتثل لأوامره ، وتجنب معاصيه ، فهذا القسم أهله يستحقون الولاية الكاملة من جميع الوجوه ‏.‏

القسم الثاني ‏:‏ من كفر بالله ورسوله ، ولم يؤمن بدينه وشرعه ، فهؤلاء يستحقون المعاداة الكاملة من جميع الوجوه ‏.‏

القسم الثالث ‏:‏ الذين آمنوا بالله ورسوله ودينه وشرعه ، ولكن حصلت منهم بعض المخالفات من ارتكابه بعض المعاصي وترك بعض الواجبات فهؤلاء يوالون من جهة إيمانهم بالله ورسوله ويعادون من جهة تقصيرهم في الأوامر والنواهي ‏.‏

ومما تقدم يتبين لك أيها القارىء أن الولاء يقوم على المحبة والنصرة والاتباع ، فمن أحب في الله وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى في الله ، فهو ولي الله ‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما ‏:‏ ‏"‏ من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئاً ‏"‏ ‏.‏

أما من والى الكافرين واتخذهم أصدقاء وإخواناً فهو مثلهم ، قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ‏.‏ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ‏}‏ ‏.‏

والقرآن العزيز مشتمل على كثير من الآيات التي تحذر من اتخاذ الكافرين أولياء كقوله سبحانه وتعالى ‏:‏ ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضو عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ‏.‏ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لايضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط ‏}‏ ‏.‏

قال ابن جرير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآيات الكريمة ‏:‏ يعني بذلك تعالى ذكره ‏:‏ يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم ‏{‏ لا تتخذوا بطانة من دونكم ‏}‏ يقول ‏:‏

لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم ‏{‏ من دونهم ‏}‏ من دون أهل دينكم وملتكم يعني من غير المؤمنين ، وإنما جعل ‏"‏ البطانة ‏"‏ مثلاً لخليل الرجل فشبهه بما وَلِىَ بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطِّلاعه على أسراره وما يطويه عن أباعده ، وكثير من أقاربه محل ما وَلِىَ جَسَده من ثيابه ، فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاّء وأصفياء ثم عرفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة وبغيهم إياهم الغوائل فحذرهم بذلك منهم ومن مخالتهم فقال تعالى ذكره ‏{‏ لايألونكم خبالاً ‏}‏ يعني لا يستطيعونكم شراً من ‏(‏ ألوت آلُو ألواً ‏)‏ ، يقال ما ألا فلان كذا‏:‏ أي ما استطاع كما قال الشاعر ‏:‏

جهراء لا تألو إذا هي أظْهرتْ ** بَصَــراً ولا مِنْ عَيْلةٍ تغنينـي

يعني ‏:‏ لا تستطيع عند الظهر إبصاراً ، وإنما يعني جل ذكره بقوله

{‏ لا يألونكم خبالاً ‏}‏ البطانة التي نهى المؤمنين عن اتخاذها من دونهم فقال ‏:‏ إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالاً أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال ، وأصل الخبْل والخبال الفساد ثم يستعمل في معان كثيرة يدل على ذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصيب بخبْل أو جراح ‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏ودوا ما عنتم ‏}‏ فإنه يعني ودوا عنتكم يقول ‏:‏ يتمنون لكم العنَت والشرَّ في دينكم وما يسوءكم ولا يسرُّكم ، وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق منهم ويصافونهم المودَّة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام فنهاهم الله عن ذلك ، وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم ، ثم استشهد رحمه الله على صحة تغير هذه الآيات بأحاديث وآثار كثيرة نكتفي منها بما رواه رحمه الله ، فقد روى بسنده عن ابن عباس قال ، كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحِلْف في الجاهلية ، فأنزل الله عز وجل فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوُّف الفتنة عليهم منهم ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم - إلى قوله - وتؤمنون بالكتاب كله ‏}‏ ‏"‏ اهـ ‏.‏

قال ممليه عفا الله عنه ‏:‏ وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة معان جليلة منها ‏:‏

أولاً ‏:‏ نهيه سبحانه وتعالى وتحذيره لعباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين بطانة أي أولياء وأصدقاء ‏.‏

ثانياً ‏:‏ بين سبحانه وتعالى الأسباب المقتضية للنهي عن موالاة الكافرين والتحذير من مودتهم والركون إليهم ، من هذه الأسباب ‏:‏ أنهم لا يألون خبالاً في إعنات المؤمنين وإيذائهم بكل ما يستطيعونه من الأذى، ومنها‏:‏ أنهم أعداء للمؤمنين عِداءاً مستحكماً بحيث تظهر البغضاءُ والكراهيةُ على ألسنتهم وما يخفونه من العداء والبغضاء في صدورهم أكبر مما يبدو على ألسنتهم ، ومنها ‏:‏ أنهم لايحبون المؤمنين ولايؤمنون

بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلا ظاهراً أما في الباطن فإنهم يكفرون بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏ وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضُّو عليكم الأنامل من

الغيظ ‏}‏ ‏.‏ ومنها ‏:‏ أن ما يصيب المؤمنين من خير يسؤهم وما يصيب المؤمنين من شر فإنهم يفرحون به ويسرهم ، وقال سبحانه وتعالى مبيناً الموالاة الحقيقية ‏:‏ ‏{‏ إنما وليُّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ‏.‏ ومن يتولّ الله ورسولَه والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ‏.‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ‏}‏ ‏.‏ بعد أن نهى سبحانه وتعالى عن موالاة اليهود والنصارى وبين أن من اتخذهم أولياء فهو منهم حصر الولاية الصحيحة بموالاة الله ورسوله والمؤمنين بإنما التي هي أبلغ طرق الحصر بعد الحصر بالنفي والاستثناء حيث تقرر في علم المعاني أن أبلغ طرق القصر هي النفي والاستثناء كقولك ‏:‏ ‏"‏ لا إله إلا الله ‏"‏ ويليها في البلاغة الحصر بإنما ، كما تضمنت هذه الآية الكريمة أن النصر والغلبة والتأييد يحصل بتولي الله ورسوله والمؤمنين فقط ‏{‏ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ‏}‏ ‏.‏

قال ابن جرير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية ‏:‏ ‏"‏ يعني تعالى ذكره بقوله ‏:‏ ‏{‏ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ‏}‏ ، أنه ليس لكم أيها المؤمنون ناصر إلا الله ورسوله والمؤمنون الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرأوا من وَلايتهم ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء فليسوا لكم أولياء ولا نُصَراء بل بعضهم أولياء بعض ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً اهـ ‏.‏

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره ‏:‏ ‏"‏ عند قوله تعالى ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً‏.‏‏.‏‏.‏الآية ‏}‏ وهذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من الكتابيين والمشركين الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي يتخذونها هزواً يستهزئون بها ، ولعباً يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد وفكرهم الفاسد اهـ ‏.‏

وقال أيضاً ابن كثير رحمه الله عند تفسيره تعالى‏:‏ ‏{‏ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏}‏ الآية ، قال ‏:‏ وما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس وتنقص بحملة العلم ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مره وسموه وسحروه وألّبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة اهـ ‏.‏

ثم ذكر رواية الحافظ أبو بكر ابن مردويه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏ ما خلا يهودي بمسلم قط إلا هم بقتله ‏"‏ ‏.‏

وصدق رحمه الله فيما ذكره من صفات اليهود من أنهم أشد الناس عداءاً للرسل والأديان وخصوصاً عدائهم لنبينا صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم ، استدل على ذلك بعشرات الآيات التي تذم اليهود وتبين مكرهم وغدرهم بالرسل واتباعهم ، وقد اطلعت على كلام لبعض العلماء ذكره عنهم ابن النقاش في كتابه ‏"‏ المذمَّة في استعمال أهل الذمة ‏"‏ تضمن بيان بعض صفات اليهود والنصارى الذميمة التي جاءت في القرآن فأحببت ذكره للقارىء على ما فيه من طول لجودته وكثرة فوائده فقال رحمه الله ‏:‏ ‏"‏ ومعلوم أن اليهود والنصارى موسومون بغضب الله ولعنته ، والشرك به ، والجحد لوحدانيته ، وقد فرض الله على عباده في جميع صلواتهم أن يسألوا هداية سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وتجنبهم سبيل الذين أبعدهم من رحمته وطردهم من جنته فباءوا بغضبه ولعنته من المغضوب عليهم والضالين ، فالأمة الغضبية هم اليهود بنص القرآن ، وأمة الضلال هم النصارى المثلثة عباد الصلبان ، وقد أخبر تعالى عن اليهود بأنهم بالذلة والمسكنة والغضب موسومون فقال تعالى ‏:‏ ‏{‏ ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس وبآءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ‏}‏ ، وأخبر سبحانه بأنهم باؤوا بغضب على غضب وذلك جزاء المفترين ، فقال سبحانه ‏:‏

‏{‏ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزِّل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ‏}‏ ‏.‏ وأخبر سبحانه أنه لعنهم ولا أصدق من الله قيلاً فقال سبحانه ‏:‏ ‏{‏ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً ‏}‏ ، وحكم سبحانه بينهم وبين المسلمين حكماً ترتضيه العقول ويتلقاه كل منصف بالإذعان والقبول فقال سبحانه ‏:‏ ‏{‏ قل هل أنبئكم بشَّرٍ من ذلك مثوبةً عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شرٌ مكاناً وأضل عن سواءَ السبيل ‏}‏ ، وأخبر سبحانه عما أحل بهم من العقوبة التي صاروا بها مثلاً في العالمين فقال تعالى ‏:‏ ‏{‏ فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ‏.‏ فلما عتو عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردةً خاسئين‏}‏ ‏.‏ ثم حكم عليهم حكماً مشتملاً عليهم في الذراري والأعقاب على مر السنين والأحقاب فقال تعالى ‏:‏ ‏{‏ وإذ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوءَ العذاب إن ربك لسريع العقاب ‏}‏ الآية ، فكان هذا العذاب في الدنيا بعض الاستحقاق ‏{‏ ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق ‏}‏ ، فهم أنجس الأمم قلوباً ، وأخبثهم طويَّه وأرداهم سجية وأولاهم بالعذاب الأليم

{‏ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهِّر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ‏}‏ ، فهم أمة الخيانة لله ورسوله ودينه وكتابه وعباده المؤمنين فقال سبحانه ‏:‏ ‏{‏ ولا تزال تطَّلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم وأصفح إن الله يحب المحسنين ‏}‏ ، وأخبر عن سوء ما يصنعون ويقولون وخبث ما يأكلون ويحكمون فقال تعالى وهو أصدق القائلين ‏:‏ ‏{‏ سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ‏}‏ ، وأخبر تعالى أنه لعنهم على ألسنة أنبيائه ورسله بما كانوا يكسبون فقال سبحانه‏:‏

{‏ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ‏.‏ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ‏.‏ ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ‏}‏ ، وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين وأخبر أن من تولاهم فإنه منهم في حكمه المبين فقال تعالى وهو أصدق القائلين ‏:‏ ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ‏}‏ ، وأخبر عن حال متوليهم بما في قلبه من المرض المؤدي إلى فساد العقل والدين بقوله ‏:‏

{‏ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ‏}‏ ، ثم أخبر عن حبوط أعمال متوليهم

ليكون المؤمن لذلك من الحذرين فقال ‏:‏ ‏{‏ ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ‏}‏ ، ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائه أولياء وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم وأنهم لا يمنعون من سوء ينالونهم به بأيديهم أو ألسنتهم إذا قدروا عليه فقال تعالى ‏:‏ ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق‏}‏ - إلى قوله - ‏{‏إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ‏}‏ وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوة حسنة في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين إذا تبرأوا مما ليس على دينهم امتثالاً لأمر الله وإيثار مرضاته وما عنده فقال تعالى ‏:‏

‏{‏ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ‏}‏ ، وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين فقال تعالى وهو أصدق القائلين ‏:‏

{‏ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير ‏}‏ ، فمن ضروب الطاعات أهانتهم في الدنيا قبل الآخرة التي هم إليها صائرون ، ومن حقوق الله الواجبة ‏:‏ أخذ جزية رؤوسهم التي يعطونها عن يد وهم صاغرون ‏.‏ ومن الأحكام الدينية ‏:‏ أن تعم جميع الذمة إلا من لا تجب عليه باستخراجها وأن يعتمد في ذلك سلوك سبيل السنة المحمدية ومناهجها وألا يسامح بها أحد منهم ولو كان في قومه عظيماً وألا يقبل إرساله بها ولو كان فيهم زعيماً وألا يحيل بها على أحد من المسلمين ولا يوكل من إخراجها عنه أحداً من الموحدين بل تؤخذ منه على وجه الذلة والصغار إعزازاً للإسلام وأهله وإذلالاً لطائفة الكفار وأن تستوفى من جميعهم حق الاستيفاء وأهل خيبر وغيرهم في ذلك على السواء ، وأما ما ادعاه الجبابرة من وضع الجزية عنهم بعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك زور وبهتان وكذب ظاهر يعرفه أهل العلم والإيمان لفَّقَه القوم البهت وزوّروه وضعوه من تلقاء أنفسهم وتمموه وظنوا أن ذلك يخفى على الناقدين أو يروج على علماء المسلمين ويأبى الله إلا أن يكشف محال المبطلين وإفك المفترين وقد تظاهرت السنن وصح الخبر بأن خيبر فتحت عنوة وأوجف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون الخيل والركاب فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على إجلائهم عنها كما أجلى إخوانيهم من أهل الكتاب ، فلما ذكروا أنهم أعرف بسقي نخلها ومصالح أرضها أقرهم فيها كالأُجَرَاء وجعل لهم نصف الأبضاع وكان ذلك شرطاً مبنياً وقال ‏:‏ ‏"‏ نقركم فيها ما شئنا ‏"‏ ، فأقر بذلك الجبابرة صاغرين وأقاموا على هذا الشرط في الأرض عاملين ولم يكن للقوم من الذمام والحرمة ما يوجب إسقاط الجزية عنهم دون من عداهم من أهل الذمة كيف وفي الكتاب المشحون بالكذب والمين شهادة سعد بن معاذ وكان قد توفى قبل ذلك بأكثر من سنتين وشهادة معاوية ابن أبي سفيان وإنما أسلم عام الفتح بعد خيبر سنة ثمان وفي الكتاب المكذوب أنه أسقط عنهم الكُلَفْ والسُخَر ، ولم يكن على زمانه صلى الله عليه وسلم في شيء من ذلك ولا على زمان خلفائه الذين ساروا في الناس أحسن السير ‏.‏ ولما اتسعت رقعة الإسلام ودخل فيه الخاص والعام وكان في المسلمين من يقوم بعمل الأرض وسقى النخل أجلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه اليهود من خيبر بل من جزيرة العرب ممتثلاً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏ أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب ‏"‏ ‏.‏ وقال ‏:‏ ‏"‏ لئن بقيت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً ‏"‏ ‏.‏

 البراء

تعريفه في اللغة‏:‏ مصدر بَرَى بمعنى قطع ومنه برى القلم بمعنى قطعه والمراد هنا ‏:‏ قطع الصلة مع الكفار فلا يحبهم ولا يناصرهم ولا يقيم في ديارهم ‏.‏

وقال ابن الأعرابي ‏:‏ بري إذا تخلص وبرىء إذا تنزه وتباعد وبرىء إذا أعذر وأنذر ومنه قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ برآءة من الله ورسوله ‏}‏ ‏.‏ أي إعذار وإنذار ‏.‏ والبرىء والبراء بمعنى واحد إلا أن البراء أبلغ من البرىء ‏.‏

والبراء في الاصطلاح‏:‏ هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار ‏.‏

يقال برىء وتبرأ من الكفار إذا قطع الصلة بينه وبينهم فلا يواليهم ولا يحبهم ولا يركن إليهم ولا يطلب النصرة منهم ‏.‏

 مكانة البراء في العقيدة الإسلامية

إن من الأسس التي تقوم عليها العقيدة الإسلامية البعد عن الكفار ومعاداتهم وقطع الصلة بهم فلا يصح إيمان المرء حتى يوالي أولياء الله ويعادي أعداءَه ويتبرء منهم ولو كانوا أقرب قريب‏.‏ قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألاَ إن حزب الله هم المفلحون ‏}‏ ، فقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنه لا يتحقق الإيمان إلا لمن تباعد عن الكفار المحادين لله ورسوله وبرىء منهم وعاداهم ولو كانوا أقرب قريب وقد أثنى سبحانه وتعالى على خليله إبراهيم حينما تبرأ من أبيه وقومه ومعبوداتهم حيث قال ‏:‏ ‏{‏ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براءٌ مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمةً باقيةً في عقبه لعلهم يرجعون ‏}‏ وقد نهى سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء فقال ‏:‏ ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ‏.‏ إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير قد كانت لكم أسوةٌ حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبداً ‏}‏ ‏.‏

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لهذه الآية قال ‏:‏ يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ‏}‏ الآية ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ‏}‏ ، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً‏}‏ ، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شىءٍ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه ‏}‏ ، ولهذا قَبِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عذرَ حاطب ، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد ، ثم قال رحمه الله تعالى ‏:‏ وقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ يخرجون الرسول وإياكم ‏}‏ ، هذا مع ما قبله من التهيج على عداوتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ولهذا قال تعالى ‏:‏ ‏{‏ أن تؤمنوا بالله ربكم ‏}‏ أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ‏}‏ ، وكقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ‏}‏ ‏.‏ وقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ‏}‏ أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم فلا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقاً عليكم وسخطاً لدينكم وقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ‏}‏ أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر ‏{‏ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ‏}‏ أي لو قدروا عليكم لما أبقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعل ‏{‏ وودوا لو تكفرون ‏}‏ أي ويحرصون على أن لا تنالوا خيراً ، فهم عداوتهم لكم كامنة وظاهره فكيف توالون مثل هؤلاء ‏؟‏ وهذا تهييج على عداوتهم أيضاً وقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير ‏}‏ ، أي قرابتكم لا تنفعكم عند الله إذا أراد الله بكم سوءاً ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما أسخط الله ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخسر وضل عمله ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد ولو كان قريباً إلى نبي من الأنبياء ‏.‏

ثم قال رحمه الله تعالى ‏:‏ يقول تعالى لعباده المؤمنين الذي

أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم ‏{‏ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ‏}‏ ، أي وأتباعه الذين آمنوا معه ‏{‏ إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ‏}‏ أي تبرأنا منكم ‏{‏ ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم ‏}‏ أي بدينكم وطريقكم ‏{‏ وبدا

بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً ‏}‏ يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ما دمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم ‏{‏ حتى تؤمنوا بالله وحده ‏}‏ ‏.‏ أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتدعوا ما تعبدوه معه من الأوثان والأنداد ‏"‏ اهـ ‏.‏

ويحسن أن نختم بحث الولاء والبراء بأبيات قالها الشيخ سليمان ابن سحمان حيث قال رحمه الله ‏:‏ عفاءً فأضحتْ طامساتِ المعالمعليها السوافي من جميع الأقالمكذاك البَراء من كل غاوٍ وآثم بدين النبي الأبطحي ابن هاشم به الملة السمحاء إحدى القواصمإلى الله في محو الذنوب العظائموران عليها كسب تلك المآثم بأوضار أهل الشرك من كل ظالمونهرع في إكرامهم بالولائميقيم بدار الكفر غيرُ مصارم مسالمة العاصـــين من كل آثــم وملة إبراهيم غُودر نهجهاوقد عدمت فينا وكيف وقد سفتوماالدين إلا الحب والبغض والولاوليس لها من سالك متمسك فلسنا نرى ما حل بالدين وانمحتْفنأسى على التقصير منّا ونلتجيفنشكوا إلى الله القلوب التي قستألسنا إذا ما جاءنا متضمخ نهش إليهم بالتحية والثناوقد برء المعصوم من كل مسلم ولكـــنما العقـل المعيشي عنـــــدنا